Pages

ميدان الصراع التاريخي




إن الصراع بين المسلمين والكفار دائم ومستمر ، وقد جرب عدونا سلاح القوة مراراً ، فما أجدى له نفعاً ، مما جعل قادتهم يفكرون في وسيلة أخرى وميدان آخر للصراع ، ولقد أدركوا أن السر في صلابة المسلمين وتفوقهم هو في إسلامهم ، ولذا حوّلوا ميدان الصراع من حرب المسلمين ذاتهم ، إلى حرب العقيد الإسلامية ، وبهذا تغيرت ملامح المعركة فلم يعد ميدانها الرئيسي الأرض ، ولكنه الأدمغة والعقول ، ولم تعد وسيلتها السيف ، بل الفكر ، ولم تعد جيوشها الأساطيل والفرق العسكرية ، ولكنها المؤسسات والمناهج بالدرجة الأولى ، والتاريخ أحد المجالات التي دخل هذا الصراع . ولقد تعرض التاريخ الإسلامي لأكبر قدر من الغزو الفكري وركز الأعداء على تشويه تاريخ الأمة الإسلامية ، ذلك أن التاريخ بالنسبة لأية أمة هو مجال اعتزازها وموطن القدوة فيها . فإذا كان تاريخ الأمة حافلاً بالأمجاد ، كما هو واقع تاريخ المسلمين ، فإنه بلا شك سيكون باعثاً لهم على النهوض والتمسك بالمبادئ والآداب والقيم التي جعلت الأجداد يحوزون هذا المجد والفخار ، ويصلون إلى هذا المستوى الراقي في بناء الأمة والحضارة . والتاريخ الإسلامي هو الذي يسجل هذه الصور السامقة ويوضح دور الأمة وأثرها وفضلها على البشرية ، ولذلك لا نستغرب إذا ركز الأعداء في غزوهم الفكري على التاريخ الإسلامي حتى ناله كثير من التشويه والتحريف والتجهيل والتزييف والتفسير الخاطئ لأحداثه ومزاحمته بتواريخ الأمم الجاهلية حتى يبدو حلقة صغيرة أو كماً مهملاً في تاريخ البشرية . ولقد قام على تشويه التاريخ الإسلامي في العصر الحديث جيش بل جيوش من الاستشراق والتنصير ودوائر البحث ومكاتب المخابرات في الدول الغربية ، واستطاعوا أن يجندوا مجموعة من ضعاف النفوس والمغرورين والجهلة وضحايا الغزو الفكري في العالم الإسلامي ممن نعرّج عليهم بعد قليل لمساعدتهم ونشر أفكارهم بين المسلمين .

وفيما يلي بعض الوسائل التي استخدموها :

- اختلاق الأخبار وإبراز المثالب : وهذه أولى الوسائل التي استخدمها المستشرقون والمنصرون لتشويه صورة الحياة الإسلامية وعقيدة المسلمين وسيرة رسولهم صلى الله عليه وسلم حتى ينفروا أبناء جلدتهم من الدين الإسلامي ، ويصورون المسلمين بأنهم وحوش وسفاكو دماء وأنهم يعيشون حياة تخلف وهمجية ، ويضعون قصصاً وحكايات تؤيد ما يقولون . وقد قل استخدام هذه الوسيلة في الكتابات المتأخرة لا إنصافاً للحقيقة ، وإنما تغييراً في الخطة ، لأن الوسيلة الأولى لم تعد صالحة ولا مقبولة حتى في المجتمعات الغربية . ومن اطلع على كتب القوم وما تكتبه المجلات الصادرة عنهم ودوائر المعارف يجد ذلك واضحاً . فمن الأمثلة والذي يعد من أخف الأمثلة (كارل بروكلمان) المستشرق الألماني الذي يعتبر حجة عندهم بل عند بعض الباحثين المسلمين ، ويعتبرونه من المعتدلين وقد يبالغ البعض فيعتبره من المنصفين في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية) ولكن إذا قرأت في هذا الكتاب رأيت العجب العجاب ورأيت التشويه للتاريخ ، بل رأيت الجهل الثقيل ورأيت الكذب الصريح . يقول في ( ص 31 ) : " الكعبة بناء ذو أربعة زوايا يحتضن في إحداها الحجر الأسود ولعله أقدم وثن عبد في تلك الديار وكانت الكعبة تضم تمثال الإله القمري هبل ، بالإضافة إلى الآلهة الثلاث المعبودة اللات والعزى ومناة " . وقوله هذا إما جهل حقيقي وإما كذب وتزوير وهذا أقرب لأن مثله لا يجهل موقع العزى واللات ومناة وهو يبحث في كتب الجغرافيا والبلدانيات الإسلامية التي تحدد مواقع تلك الأصنام .

- ومن الوسائل : إضعاف دراسة التاريخ الإسلامي ومزاحمته بغيره : إن من وسائل دعاة الغزو الفكري إضعاف دراسة تاريخ الأمة الإسلامية في المدارس والجامعات ومراكز العلم في العالم الإسلامي ، ومزاحمته من تواريخ الأمم الكافرة سواء القديم منها أو الحديث مما يضعف شأنه في نفوس الدارسين ، حيث يُعطى لهم بصورة مختصرة ومشوهة ، بينما يفسح المجال لدراسات واسعة في التاريخ القديم ، ويربط سكان كل منطقة بتواريخ الأمم الجاهلية التي عاشت فيها ، ففي مصر الفرعونية ، وفي العراق البابلية والسومرية ، وفي بلاد الشام الفينيقية ، وفي اليمن السبئية والحميرية ، مما يوجد الوطنيات العرقية الضيقة ويفتت الوحدة الإسلامية ، ويشتت أوصال التاريخ الإسلامي ، بحيث يبدو وكأنه نقطة في بحر أو جدول صغير في نهر .

- ومن الوسائل : جعل واقع المسلمين في العصور المتأخرة هي الصورة الحقيقية لتعاليم الإسلام : إن عرض التاريخ الإسلامي بجعل واقع المسلمين المتخلف هو الصورة الحقيقية لتعاليم الإسلام ، لهو تشويه متعمد ومغالطة للحقائق العلمية والواقع ، والغرض من ذلك تزهيد المسلمين في دينهم والفصل بينهم وبينه حيث يُصوّرُ لهم الدين من خلال درس التاريخ بالصورة المتخلفة التي أنتجها واقع المسلمين اليوم ، المنحرف عن تعاليم الإسلام ، ثم يجعلون المسلم بين خيارين إما أن يصبر على التخلف إذا أراد التمسك بدينه ، وإما أن يأخذ سبيل التقدم لكن عليه أن ينبذ دينه كما نبذت أوربا دينها ، ويخفون بدهاء ومكر الخيار الثالث الذي هو البديل الصحيح عن الخيارين السابقين ، وهو النهوض بالأمة والرجوع بها إلى مستوى دينها الحق ، وبيان أن ما وقعت فيه الأمة من التخلف والانحطاط هو نتيجة طبيعية لتخلفها في عقيدتها وإسلامها ، لا نتيجة تمسكها به كما يصور ذلك أعداؤها .

- ومن الوسائل : إبراز دور الفرق الضالة وتضخيمه : لقد وجد دعاة الفتنة من المستشرقين ومن لف لفهم وسلك طريقهم ، غايتهم المنشودة في الفرق المنحرفة والخارجة على سبيل السنة مثل الخوارج ، والرافضة ، والقرامطة وإخوان الصفا ، والمعتزلة ، والجهمية وأيضاً من الشخصيات الضالة مثل ابن سبأ ، وعبد الله بن ميمون القداح ، والحاكم العبيدي ، وصاحب الزنج ، والحلاج ، وابن عربي ، وغيرهم فنشروا تراثهم واعتنوا بتاريخهم وضخموا أدوارهم وأقاموا المراكز والجمعيات لخدمة ذلك ، مع تصويرهم لحركاتهم وإبرازها على أنها حركات إصلاحية ومعارضة للفساد وهذا كله تزوير للتاريخ وتدليس للحقائق وإخفاء للأهداف الحقيقية التي تسعى تلك الفرق وأولئك الأشخاص إلى تحقيقها وهي تحطيم الخلافة الإسلامية ، وتبديل مفاهيم الدين الصحيحة بمفاهيم باطنية ووضعية .

- ومن وسائلهم : تجاهل الترتيب الصحيح لمصادر التاريخ الإسلامي : إن التاريخ الإسلامي له مصادر أصلية دونها أهل العلم وفق منهجية علمية أصلية مستقلة ولها مراتب في التوثيق وفق شروط معلومة في المؤرخ وفي ما يكتب ، ولكن دعاة الغزو الفكري من المستشرقين والمنصرين وأعوانهم من داخل العالم الإسلامي لا يعرفون هذا الترتيب ، وإذا عرف بعضهم تجاهل ولم يلتزم حتى يحقق رغبته في تشويه التاريخ الإسلامي وأهله ، ولذلك نجدهم يرجعون إلى كتب الحكايات والسمر وكتب الأدب مثل المستطرف والأغاني والحيوان ، وغيرها من كتب الطرائف والنوادر التي لم يقصد مؤلفوها تدوين الحقائق التاريخيه بقدر ما قصدوا إلى جمع الأخبار والحكايات التي فيها تسلية وتغذية للمجالس ، بينما يُغفِلون كتباً من أوثق الكتب بما تضمنت من الحقائق التاريخية مثل كتب الحديث النبوي من المصنفات والسنن والمسانيد والجوامع التي تذكر أخبار السلف بالأسانيد ، ومثل كتب الفقه التي تذكر السوابق التاريخية والقضايا التي وقعت من القضاة والفقهاء والحكام ، ومثل كتب السير والتراجم . فممن شوه التاريخ في القديم : أبو مخنف لوط بن يحيى . الذي بغلت رواياته في تاريخ الطبري قرابة ستمائة رواية استغرقت الفترة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى سنة 132هـ . ونصر بن مزاحم الكوفي ، وله كتب مثل وقعة صفين والغارات وكتاب الجمل . وهو من أعلام الشيعة الغالين ، قال عنه الذهبي " رافضي جلد " . والمسعودي : في كتابه " مروج الذهب " وقد أوضح أهل العلم كابن تيمية وابن حجر وابن خلدون تشيعه وانحرافه في الكتابة عن الصحابة .

وممن شوه التاريخ من المعاصرين كُثر من أبرزهم : طه حسين : فقد اتهم ابن خلدون بالسذاجة والقصور وفساد المنهج . وقام بإعادة خلط الإسرائيليات والأساطير إلى السيرة النبوية بعد أن نقاها المؤرخون المسلمون منها . وقام عليه من الله ما يستحق بحملة على الصحابة والرعيل الأول من الصفوة المسلمة وشبههم بالسياسيين المحترفين في كتابه ( الفتنة الكبرى ) . ووصف الفتح الإسلامي لمصر بأنه استعمار عربي . ولد طه حسين عام 1889م ودخل الأزهر عام 1902م ، وأقبل على دروس الأدب . وبدء يختلف إلى الجامعة المصرية في أول نشأتها وكانت تضم عدداً من المستشرقين الفرنسيين والإيطاليين . وعندما رأوه ناقماً على الأزهر عملوا على إشباع نفسه بالآمال في بيئة الغرب وتأريث الكراهية لبيئة الأزهر . دخل الجامعة المصرية ثم سافر إلى أوربا حيث درس الأدب الفرنسي واللغات ثم عاد إلى مصر ثم سافر إلى باريس حيث جاز امتحان الليسانس وأحرز الدكتوراه عن ابن خلدون عام 1917م ثم عاد إلى القاهرة ليتولى تدريس مادة التاريخ القديم ( اليوناني والروماني ) ثم انتقل إلى الجامعة الرسمية عام 1926م حيث تولى تدريس الأدب العربي وأصدر كتابه في الشعر الجاهلي .

ومن المعاصرين أيضاً : محمد عمارة : الذي يقول " فلا الحرب التي سميت بحرب الردة كانت دينية ولا حرب عليّ مع خصومه كانت دينية ، لأنها كانت حرباً في سبيل الأمر ، أي الخلافة والرئاسة ، وهذه سلطة ذات طبيعة سياسية ومدنية هي الأخرى " . ويعلق في موضع آخر على حديث " الأئمة من قريش " فيقول : " إن خلاصة البحث في هذه الأحاديث ، تجعلنا نعتقد بأن هذه العبارات التي نسبت إلى السنة الشريفة لا تخرج عن أن تكون فكراً سياسياً قرشياً ، كان شائعاً في ذلك العصر ، يعكس ثقل قريش في المجتمع العربي في ذلك الحين .

ومن الكتّاب أيضاً : د .عبد المنعم ماجد : حيث يقول " لا نوافق بعض المستشرقين في قولهم إن العرب كانوا مدفوعين نحو الفتوح بالحماس الديني فمن غير المعقول أن يخرج البدوي وهو الذي لا يهتم بالدين لينشر الإسلام " .
ومن الكتاب : جورجي زيدان : من نصارى العرب ولد في بيروت سنة 1861م من عائلة أرثوذكسية ولا يعرف أصل عائلته ، هاجر عام 1883م إلى مصر على باخرة إنجليزية وفي سنة 1891م أنشأ مجلة الهلال التي أصبحت فيما بعد مدرسة لها معالمها الخاصة بها ، هلك سنة 1914م من تحريفاته وتشويهه للتاريخ أنه عمل على حشد أقوال الباطنيين الحاقدين والمستشرقين في التاريخ وأرجها تارة باسم التمدن الإسلامي وتارة باسم روايات تاريخ الإسلام .

وفي مواجهة هذا الصراع فإن هناك علماء ومفكرين أفاضل كانت لهم جهود دافعوا فيه عن التاريخ الإسلامي وقدموا أطروحات وبحوث جيدة في هذا المجال فمن هؤلاء : سيد قطب رحمه الله في كتابه في التاريخ فكرة ومنهاج ، وفتحي عثمان في كتابه أضواء على التاريخ الإسلامي ، وعبدالرحمن الحجي في كتابه نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي ، وعماد الدين خليل في كتابه التفسير الإسلامي للتاريخ ، ومحمد بن صامل السلمي في أطروحته منهج كتابة التاريخ الإسلامي ، وجمال عبدالهادي في كتابه منهج كتابة التاريخ الإسلامي ، والأستاذ محمد قطب في كتابه كيف نكتب التاريخ الإسلامي ، وغيرهم من الكتّاب والمؤلفين في هذا المجال في مواجهة الصراع " ولله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله " .


للدكتور ناصر الأحمد

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
http://tarhia.blogspot.com جميع الحقوق محفوظة الموسوعة التاريخية الخالدة